من كان فنّه رجع الصدى لصرخة شباب صودرت أحلامه واغتصب حقّه في الكرامة. من غيرها -آمال المثلوثي- كان يتكلم ويصدح بالصوت عاليا زمن الصمت وزمن التملّق وزمن المناشدة والتوسل على أبواب قصور الملوك. من كان من أهل الفن أكثر منها قربا من نبض الشباب حتى نستغرب ذلك الكم من الشباب الذي تحول في سهرة الخميس إلى ضاحية قرطاج وتحديدا إلى متحف قرطاج
حيث كانت هناك آمال المثلوثي نجمة تلألأت في كامل بريقها في ليلة صيف صحو من ليالي قرطاج التي انطلقت منذ يوم الثلاثاء من هذا الأسبوع في دورة أولى لمهرجان قرطاج الدولي بعد انتصار الثورة الشعبية.
كانت هي البدر في تمامه بل لعلها أكثر وهجا ونورها غمر القلوب واقتحم الوجدان ونزل إلى أعمق الأعماق.
الحورية في بياضها الناصع
أطلت آمال المثلوثي على جمهورها حوريّة في ثوبها الأبيض الناصع ملتحفة بعلم تونس معلنة أن السهرة ستكون على نخب الوطن وعلى نخب الحرية التي انتزعها الشعب انتزاعا.
لم نكن أمام مطربة عاديّة بل أمام كتلة متوقّدة وطاقة هائلة تفور منها دماء الشّباب. كتلة من نار كانت آمال المثلوثي ليلة الخميس وقد منحها الإحساس بالحريّة جناحين، فطفقت تغنّي بصوت رخيم أفضل ما يحمله رصيدها من أغان تشدو للحريّة وتنتصر للإنسانية.
فاتحة الألحان كانت بأغنية «في بالي» التي أهدتها إلى الشهداء الذين سالت دماؤهم في الشوارع وعلى الأرصفة من أجل تمكين الشعب من استرجاع حريته وكرامته، حاملة لقيثارتها في أغلب الردهات، كانت آمال المثلوثي لا تغني بالمفهوم التقليدي للغناء وإنما كان صوتها تغريدة ترقص لها القلوب وتنتشي بها النفوس.
أم الزين الجماليّة المستلهمة من التراث كانت هديتها الثانية إلى الجمهور الذي حل بمتحف قرطاج قادما حتى من الأماكن البعيدة. ظل يردد، ويردّد معها أغلب كلمات الأغاني عن ظهر قلب ويطالبها بعناوين بالذات بالتوازي مع كلمات الإطراء والتشجيع والهتاف باسم النجمة المتوهجة التي حوّلت السهرة إلى موعد مع النغم الصادق والموسيقى الرخيمة والصوت الجياش الذي يتدفق صافيا رقراقا من حنجرة في ملمس الحرير والمخمل.
تغريدة تهفو لها النفوس
درّة وماسّة وياقوتة نادرة في سماء الأغنية تلك التي لمعت في السهرة المذكورة وطفقت تغني بحنجرتها الذهبية من أغانيها الكثيرة التي أدّتها فيما بين سنتي 2006 و2010 إلى جانب أغانيها الجديدة والتي اكتسبت بفضلها انتشارا واسعا خاصّة لدى الشباب وروّاد الإنترنيت وكلّ المنتصرين للفنّ الهادف من تونس وفي عدد كبير من البلدان العربية وكذلك بفرنسا أين تقيم آمال المثلوثي وتحاول أن تستفيد من علاقتها المزدوجة مع الفن الشرقي والغربي في صياغة ألحان تصل إلى المتلقي بقطع النظر عن هويته أو جنسيته. أغاني آمال المثلوثي لا تحتاج أحيانا إلى ترجمة للكلمات لأن هذه الفنّانة الشابة تبلّغ إحساسها الكبير بيسر والدليل على ذلك مصممة الكوريغرافيا «ليتيسيا» التي رافقتها في السهرة بمجموعة من اللّوحات الكوريغرافيّة صمّمتها وفق تأكيد المطربة بنفسها قبل أن تلتقيها ودون أن تفهم معنى الكلمات.
«ورقة ستيلو» و«حلمة» و«ديما ديما» من بين أشهر ما غنته آمال المثلوثي في الأعوام الأخيرة والتي تردد فيها اسم تونس, تونس التي تناديها المطربة بكل جوارحها للخروج من الرّماد, تونس التي تدعوها الفنانة إلى دفع الغطاء الذي يسدّ القمقم كي تخرج إلى النور, هذه الأغاني وغيرها أسعدت جمهور متحف قرطاج الذي صفّق وتفاعل مع المطربة تفاعلا يذكرنا باللحظات المهمة التي تكون فيها الجماهير في أحسن حالات التفاعل مع العرض الفني، ولم تقتصر آمال المثلوثي على «ريبارتوارها» الخاص حيث أدّت للشيخ العفريت وأدّت من التراث الموسيقي الشعبي وأدّت بلغات أجنبية، لكن العنصر الموحّد بين فقرات السهرة هو ذلك الشدو للحرية والكرامة والانعتاق.
انطلقت السهرة مع العاشرة ليلا وتواصلت قرابة الساعتين وراوحت بين الغناء والمقطوعات الموسيقية والارتجالات خاصة على آلتي الكمان والإيقاع وتمكنت من خلالها آمال المثلوثي صحبة الفرقة التي كانت ترافقها وخاصة عازف الكمان عماد الزواري الذي سحر لبّ الجمهور بعزفه المنفرد أو مع المجموعة، وتمكن من اقتطاع لحظات من هذا الزمن أدخلت فيها على الحضور سكينة وراحة.
اقتطعت المطربة لحظات أعادت فيها إلى الذهن الساعات الحاسمة التي عاشتها بلادنا في الأيام الأولى للثورة وكانت آمال المثلوثي وقتها وسط الجماهير الغاضبة تشدو للحرية. طلبت من الجمهور لما دقت ساعة النهاية أن يقف إجلالا للحظة الانعتاق التي عاشها التونسيون فلبّى الجمهور النّداء وكانت لحظة خاشعة، تلك التي وقف فيها الجميع جمهورا وفرقة موسيقيّة وفي طليعتهم المطربة آمال المثلوثي ليؤدّوا الصلاة في محراب الحرية.
حياة السايب
source : http://www.assabah.com.tn/
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire